Monday, October 17, 2011

هل نحن من المؤمنين ؟





الأخلاق بالمعنى المادي الواقعي هي أن تشبع رغباتك بما لا يتعارض مع حق الآخرين في إشباع رغباتهم هم أيضا، فهي مفهوم مادي اجتماعي بالدرجة الأولى و هدفها حسن توزيع اللذات

أما الأخلاق بالمعنى الديني – فهي بالعكس – أن تقمع رغباتك و تخضع نفسك و تخالف هواك و تحكم شهواتك لتتحقق برتبتك و منزلتك العظيمة كخليفة عن الله ووارث للكون المسخر من أجلك

فأنت لا تستحق هذه الخلافة و السيادة على العالم، إلا إذا استطعت أولا أن تسود نفسك وتحكم مملكتك الداخلية.. و مفهوم الأخلاق هنا فردي، و هدفه بلوغ الفرد درجة كماله و إن كانت هناك ثمرة اجتماعية يجنيها ذلك الفرد فإنها تأتي بالتبعية

فالمجتمع الذي يتألف من مثل هؤلاء الأفراد لابد أن يسوده الوئام و السلام و المحبة

و الأخلاق بهذا المعنى هي خروج من عبودية النفس إلى مرتبة عليا.. خروج من الرغبة في شيء مادي إلى الرغبة في حضرة الإله.. خروج من الجزء إلى الكل.. من النسبي إلى المطلق حيث يجب أن تطلع كل العيون.. و هذا لا يمكن أن يتم إلا إذا تم تصحيح و تكميل بصر العين.. فأصبحت ترى كل شيء بحقيقة حجمه و نسبته لا تحجبها لذة دنيوية عن رؤية الكمالات الإلهية

و لهذا تبدأ الأخلاق الدينية بمجاهدة الشهوات حتى تحكمها و تخضعها و لا تبدأ بالتسليم لها و بإشباعها كما هو شائع، فهي ليست دعوة إلى حسن توزيع اللذات و إنما هي دعوة إلى الخروج من أسر الملذات، و هكذا تختلف النظرتان تماما و تؤدي كل منهما إلى انسان مختلف

فالإنسان المادي يستهدف النزوة و اللذة الفورية و المقابل المادي العاجل (( لأنه لا يعتقد في وجود شيء وراء الحياة الدنيوية ))، و هو لهذا يجري وراء(( اللحظة )) و يلهث وراء (( الآن ))، و لكن اللحظة متفلتة و ((الآن)) هارب و الفوت و الحسرة تلاحقانه في أعقاب كل خطوة يخطوها و هو متروك دائما و في حلقه غصة و في لبه حسرة و كلما أشبع شهوته ازدادت جوعا. و هو يراهن كل يوم بلا ضمان و بلا رصيد فهو محكوم عليه بالموت لا يعرف متى و كيف و أين، فهو يعيش في قلق و توتر مشتت القلب متوزع الهمة بين الرغبات لا يعرف للسكينة طعما حتى يدهمه الموت رغم أنفه

أما الإنسان المؤمن فهو تركيب نفسي مختلف و أخلاقية مختلفة، فهو يرى اللذات الدنيوية زائلة، و أنها لا تساوي شيئا، و أنها مجرد امتحان إلى منازل و درجات وراءها، و أن الدنيا مجرد عبور إلى تلك المنازل و الدرجات الباقية.. و أن الدنيا كالخيال و أن الله هو الضمان الوحيد في رحلة النيا و الآخرة.. و أنه لا حاكم و لا مقدر سواه.. و لو اجتمع الناس على أن يضروك لما استطاعوا أن يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، و إن اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لما استطاعوا أن ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك

و لهذا فإن المؤمن لا يفرح لكسب و لا ييأس على خسران، و إذا دهمه ما يكره قال في نفسه: ((و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم و الله يعلم و أنتم لاتعلمون))
و الله عنده حكيم عادل رحيم لا يقضي بالشر إلا بسبب و لحكمة أو لفائدة و استحقاق عادل.
و هو لا يحسد أحدا و لا يغبط أحدا، بل هو مشفق على الناس مما هم فيه من غفلة، يقول له قلبه:
(( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد.. متاع قليل ثم مأواهم جهنم و بئس المهاد)) (196- 197 آل عمران)
(( أيحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين.. نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون)) (55-56 المؤمنون)
(( إنما نملي لهم ليزدادوا إثما)) (187- آل عمران)
(( ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير.. لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم و الله لا يحب كل مختال فخور)) (22-23 الحديد)
(( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا))

و ثمرة تلك الآيات عند المؤمن هي السكينة و الهدوء النفسي و اطمئنان البال و الثقة في حكمة الله و عدله و رحمته و تصريفه.
و مثل هذا المؤمن كلما ترك شهوة من شهواته، وجد عوضا لها حلاوة في قلبه، مما يلقى من التحرر الداخلي من أغلال نفسه و مما يجد من النور في بصيرته
و هو يترك السعي إلى الحظوظ للسعي إلى الحقوق و يترك الدعاوى إلى الأوامر
و يترك أهواء النفس إلى وجه الحق
و يكف عن التلهف و الحركة وراء الأغراض و المناصب و الرياسات و المغانم و يسكن إلى جنب الله.. و هل بعد الله مغنم؟!!

و من صفات هذا المؤمن العامل لوجه الله أنه ناهض بالهمة على الدوام لا يفتر و لا يكسل و لا يتواكل، بينما يفتر من يعمل للأجرو يفتر من يعمل للخوف ((يخدع الأول نفسه بالاستكفاء و يخدع الثاني نفسه بالتمني)) أما القاصد وجه ربه فإنه لا يفتر لأنه لم يربط جهاده بأجر و هو لا يكسل متواكلا على مغفرة لأنه لا يتحرك بالخوف من عقاب و إنما هو عبد محب متطوع، العمل عنده سعادة، لهذا لا تجده متبرما و لا متسخطا و إنما هو دائما طلق الوجه مشرق البسمة متفائل، حماد لربه في جميع الحالات لا يسب الدهر و لا ينسب لربه نقصا و لا قصورا

و هذه التركيبة النفسية النادرة هي ثمرة الايمان بالقرآن و هي ثمرة التوحيد.. و التوحيد يجمع عناصر النفس و يوحد اتجاه المشاعر نحو مصدر واحد للتلقي فيؤدي بذلك إلى أثر تركيبي بنائي في الشخصية بعكس تعدد الآلهة و تعدد مصادر الخوف و النفع و الضرر فإنه يؤدي إلى توزع المشاعر و انقسام النفس و تشتت الانتباه إلى العديد من الجهات، و يؤدي بذلك إلى تفكيك رباط الشخصية


د/ مصطفى محمود

No comments: